الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآية رقم (4): {وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)}أي يغشى الشمس، فيذهب بضوئها عند سقوطها، قال مجاهد وغيره.وقيل: يغشى الدنيا بالظلم، فتظلم الآفاق. فالكناية ترجع إلى غير مذكور..تفسير الآية رقم (5): {وَالسَّماءِ وَما بَناها (5)}أي وبنيانها. فما مصدرية، كما قال: {بِما غَفَرَ لِي رَبِّي} [يس: 27] أي بغفران ربي، قاله قتادة، واختاره المبرد.وقيل: المعنى ومن بناها، قاله الحسن ومجاهد، وهو اختيار الطبري. أي ومن خلقها ورفعها، وهو الله تعالى. وحكي عن أهل الحجاز: سبحان ما سبحت له، أي سبحان من سبحت له..تفسير الآية رقم (6): {وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6)}أي وطحوها.وقيل: ومن طحاها، على ما ذكرناه آنفا. أي بسطها، كذا قال عامة المفسرين، مثل دحاها. قال الحسن ومجاهد وغيرهما: طحاها ودحاها: واحد، أي بسطها من كل جانب. والطحو: البسط، طحا يطحو طحوا، وطحى يطحى طحيا، وطحيت: اضطجعت، عن أبي عمرو. وعن ابن عباس: طحاها: قسمها.وقيل: خلقها، قال الشاعر:الماوردي: ويحتمل أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز، لأنه حياة لما خلق عليها. ويقال في بعض أيمان العرب: لا، والقمر الطاحي، أي المشرف المشرق المرتفع. قال أبو عمرو: طحا الرجل: إذا ذهب في الأرض. يقال: ما أدري أين طحا! ويقال: طحا به قلبه: إذا ذهب به في كل شي. قال علقمة: .تفسير الآية رقم (7): {وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7)}قيل: المعنى وتسويتها. ف ما: بمعنى المصدر.وقيل: المعنى ومن سواها، وهو الله عز وجل.وفي النفس قولان: أحدهما آدم.الثاني: كل نفس منفوسة. وسوى: بمعنى هيأ.وقال مجاهد: سواها: سوى خلقها وعدل. وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم. أقسم جل ثناؤه بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه..تفسير الآية رقم (8): {فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8)}قوله تعالى: {فَأَلْهَمَها} أي عرفها، كذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد. أي عرفها طريق الفجور والتقوى، وقال ابن عباس. وعن مجاهد أيضا: عرفها الطاعة والمعصية. وعن محمد بن كعب قال: إذا أراد الله عز وجل بعبده خيرا، ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به السوء، ألهمه الشر فعمل به.وقال الفراء: {فَأَلْهَمَها} قال: عرفها طريق الخير وطريق الشر، كما قال: {وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ألهم المؤمن المتقي تقواه، وألهم الفاجر فجوره. وعن سعيد عن قتادة قال: بين لها فجورها وتقواها. والمعنى متقارب. وروي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قال: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها». ورواه جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قرأ هذه الآية: {فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها} رفع صوته بها، وقال: «اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وأنت خير من زكاها».وفي صحيح مسلم، عن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران ابن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشيء قضي ومضى عليهم من قدر سبق، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم. قال فقال: أفلا يكون ظلما؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا، وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فقال لي: يرحمك الله! إني لم أرد بما سألتك إلا لأحرز عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه: أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم. وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: «لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم. وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها}». والفجور والتقوى: مصدران في موضع المفعول به..تفسير الآيات (9- 10): {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)}قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها} هذا جواب القسم، بمعنى: لقد أفلح. قال الزجاج: اللام حذفت، لان الكلام طال، فصار طوله عوضا منها.وقيل: الجواب محذوف، أي والشمس وكذا وكذا لتبعثن. الزمخشري: تقديره ليدمدمن الله عليهم، أي على أهل مكة، لتكذيبهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما دمدم على ثمود، لأنهم كذبوا صالحا. وأما {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها} فكلام تابع لأوله، لقوله: {فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها} على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شي.وقيل: هو على التقديم والتأخير بغير حذف، والمعنى: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها والشمس وضحاها. {أَفْلَحَ} فاز. {مَنْ زَكَّاها} أي من زكى الله نفسه بالطاعة. {وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها} أي خسرت نفس دسها الله عز وجل بالمعصية.وقال ابن عباس: خابت نفس أضلها وأغواها.وقيل: أفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وصالح الأعمال، وخاب من دس نفسه في المعاصي، قال قتادة وغيره. واصل الزكاة: النمو والزيادة، ومنه زكا الزرع: إذا كثر ريعه، ومنه تزكية القاضي للشاهد، لأنه يرفعه بالتعديل، وذكر الجميل. وقد تقدم هذا المعنى في أول سورة البقرة مستوفى. فمصطنع المعروف والمبادر إلى أعمال البر، شهر نفسه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الربا وارتفاع الأرض، ليشتهر مكانها للمعتفين، وتوقد النار في الليل للطارقين. وكانت اللئام تنزل الاولاج والاطراف والأهضام، ليخفى مكانها عن الطالبين. فأولئك علوا أنفسهم وزكوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها. وكذا الفاجر أبدا خفي المكان، زمر المروءة غامض الشخص، ناكس الرأس بركوب المعاصي.وقيل: دساها: أغواها. قال:قال أهل اللغة: والأصل: دسسها، من التدسيس، وهو إخفاء الشيء في الشيء، فأبدلت سينه ياء، كما يقال: قصيت أظفاري، وأصله قصصت أظفاري. ومثله قولهم في تقضض: تقضي.وقال ابن الاعرابي: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم. .تفسير الآيات (11- 14): {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14)}قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها} أي بطغيانها، وهو خروجها عن الحد في العصيان، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. وعن ابن عباس بِطَغْواها أي بعذابها الذي وعدت به. قال: وكان اسم العذاب الذي جاءها الطغوي، لأنه طغى عليهم.وقال محمد بن كعب: بِطَغْواها بأجمعها.وقيل: هو مصدر، وخرج على هذا المخرج، لأنه أشكل برءوس الآي.وقيل: الأصل بطغياها، إلا أن فعلى إذا كانت من ذوات الياء أبدلت في الاسم واوا، ليفصل بين الاسم والوصف. وقراءة العامة بفتح الطاء. وقرأ الحسن والجحدري وحماد بن سلمة بضم الطاء على أنه مصدر، كالرجعي والحسني وشبههما في المصادر.وقيل: هما لغتان. {إِذِ انْبَعَثَ} أي نهض. {أَشْقاها} لعقر الناقة. واسمه قدار بن سالف. وقد مضى في الأعراف بيان هذا، وهل كان واحدا أو جماعة.وفي البخاري عن عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، وذكر الناقة والذي عقرها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذ انبعث أشقاها، انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة» وذكر الحديث. خرجه مسلم أيضا.وروى الضحاك عن علي: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: «أتدري من أشقى الأولين قلت: الله ورسوله أعلم. قال: عاقر الناقة قال: أتدري من أشقى الآخرين قلت: الله ورسوله أعلم. قال: قاتلك» فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ: يعني صالحا. {ناقَةَ اللَّهِ} ناقَةَ منصوب على التحذير، كقولك: الأسد الأسد، والصبي الصبي، والحذار الحذار. أي احذروا ناقة الله، أي عقرها.وقيل: ذروا ناقة الله كما قال: {هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73]. {وَسُقْياها} أي ذروها وشربها. وقد مضى في سورة الشعراء بيانه والحمد لله. وأيضا في سورة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1]. فإنهم لما اقترحوا الناقة، وأخرجها لهم من الصخرة، جعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم مكان ذلك، فشق ذلك عليهم.{فَكَذَّبُوهُ} أي كذبوا صالحا عليه السلام في قوله لهم: إنكم تعذبون إن عقرتموها. {فَعَقَرُوها} أي عقرها الأشقى. وأضيف إلى الكل لأنهم رضوا بفعله.وقال قتادة: ذكر لنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم.وقال الفراء: عقرها اثنان: والعرب تقول: هذان أفضل الناس، وهذان خير الناس، وهذه المرأة أشقى القوم، فلهذا لم يقل: أشقياها. قوله تعالى: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ} أي أهلكهم وأطبق عليهم العذاب بذنبهم الذي هو الكفر والتكذيب والعقر.وروى الضحاك عن ابن عباس قال: دمدم عليهم قال: دمر عليهم ربهم بذنبهم، أي بجرمهم.وقال الفراء: دمدم أي أرجف. وحقيقة الدمدمة تضعيف العذاب وترديده. ويقال: دممت على الشيء: أي أطبقت عليه، ودمم عليه القبر: أطبقه. وناقة مدمومة: ألبسها الشحم. فإذا كررت الاطباق قلت: دمدمت. والدمدمة: إهلاك باستيصال، قاله المؤرج.وفي الصحاح: ودمدمت الشيء: إذا ألزقته بالأرض وطحطحته. ودمدم الله عليهم: أي أهلكهم. القشيري: وقيل دمدمت على الميت التراب: أي سويت عليه. فقوله: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ أي أهلكهم، فجعلهم تحت التراب. {فَسَوَّاها} أي سوى عليهم الأرض. وعلى الأول {فَسَوَّاها} أي فسوى الدمدمة والإهلاك عليهم وذلك أن الصيحة أهلكتهم، فأتت على صغيرهم وكبيرهم.وقال ابن الأنباري: دمدم أي غضب. والدمدمة: الكلام الذي يزعج الرجل.وقال بعض اللغويين: الدمدمة: الإدامة، تقول العرب: ناقة مدمدمة أي سمينة.وقيل: {فَسَوَّاها} أي فسوى الامة في إنزال العذاب بهم، صغيرهم وكبيرهم، وضيعهم وشريفهم، وذكرهم وأنثاهم. وقرأ ابن الزبير فَدَمْدَمَ وهما، لغتان، كما يقال: امتقع لونه وانتقع.
|